الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشوكاني: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}النصر: العون، مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الأرض: إذا أعان على نباتها، ومنع من قحطها، ومنه قول الشاعر:يقال نصره على عدوّه ينصره نصرًا: إذا أعانه.والاسم النصرة.واستنصره على عدوّه: إذا سأله أن ينصره عليه.قال الواحدي: قال المفسرون: {إِذَا جَاء} ك يا محمد {نَصْرُ الله} على من عاداك، وهم: قريش {والفتح} فتح مكة.وقيل: المراد نصره صلى الله عليه وسلم على قريش من غير تعيين.وقيل: نصره على من قاتله من الكفار.وقيل: هو فتح سائر البلاد.وقيل: هو ما فتحه الله عليه من العلوم، وعبر عن حصول النصر، والفتح بالمجيء للإيذان بأنهما متوجهان إليه صلى الله عليه وسلم.وقيل: (إذا) بمعنى قد.وقيل: بمعنى (إذ).قال الرازي: الفرق بين النصر والفتح: أن الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان منغلقًا، والنصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذكر النصر، وعطف عليه الفتح. أو يقال النصر كمال الدين، والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة، أو يقال: النصر الظفر، والفتح الجنة، هذا معنى كلامه.ويقال: الأمر أوضح من هذا وأظهر، فإن النصر هو التأييد الذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم، والاستعلاء عليهم، والفتح هو فتح مساكن الأعداء، ودخول منازلهم.{وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا} أي: أبصرت الناس من العرب، وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به جماعات فوجًا بعد فوج.قال الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال العرب: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا، أي: جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحدًا واحدًا، واثنين اثنين، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام.قال عكرمة، ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن، وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين.وانتصاب {أفواجًا} على الحال من فاعل يدخلون، ومحل قوله: يدخلون في دين الله النصب على الحال إن كانت الرؤية بصرية، وإن كانت بمعنى العلم، فهو في محل نصب عى أنه المفعول الثاني.{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} هذا جواب الشرط، وهو العامل فيه، والتقدير: فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله.وقال مكي: العامل في (إذا) هو {جاء}.ورجحه أبو حيان، وضعف الأوّل بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها، وقوله: {بِحَمْدِ رَبّكَ} في محل نصب على الحال، أي: فقل سبحان الله ملتبسًا بحمده، أو حامدًا له.وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس، وبين الحمد له على جميل صنعه له، وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر، والفتح لأمّ القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم: هو مجنون، هو ساحر، هو شاعر، هو كاهن.ونحو ذلك.ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، أي: اطلب منه المغفرة لذنبك هضمًا لنفسك، واستقصارًا لعملك، واستدراكًا لما فرط منك من ترك ما هو الأولى.وقد كان صلى الله عليه وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله، ويكثر من الاستغفار والتضرّع، وإن كان قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر.وقيل: إن الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم.وقيل: إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيهًا لأمته، وتعريضًا بهم فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار.وقيل: إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه.وقيل: المراد بالتسبيح هنا الصلاة.والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سرورًا بالنعمة، وفرحًا بما هيأه الله من نصر الدين، وكبت أعدائه، ونزول الذلة بهم، وحصول القهر لهم.قال الحسن: أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح، والتوبة؛ ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول: «سبحانك اللَّهم وبحمدك اغفر لي إنك أنت التوّاب» قال قتادة، ومقاتل: وعاش صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين.وجملة: {إِنَّهُ كَانَ توابًا} تعليل لأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، أي: من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم، ويرحمهم بقبول توبتهم، وتوّاب من صيغ المبالغة، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين.وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} فقالوا: فتح المدائن والقصور، قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: قلت مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسه.وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم يدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاهم ذات يوم، فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلاّ ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عزّ وجلّ: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح}؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} فذلك: علامة أجلك {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوابَا} فقال عمر: لا أعلم منها إلاّ ما تقول.وأخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} حين أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفسه نعيت إليه.وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: «سبحان الله وبحمده، وأستغفره وأتوب إليه» فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه فقال: «خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} فتح مكة. {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوبَا}». وأخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك، اللَّهم اغفر لي» يتأوّل القرآن يعني: {إذا جاء نصر الله والفتح}، وفي الباب أحاديث.وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاء أهل اليمن هم أرقّ قلوبًا، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية» وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: «الله أكبر قد جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية» وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا» وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا} قال: «ليخرجنّ منه أفواجًا، كما دخلوا فيه أفواجًا». اهـ. .قال صاحب روح البيان: تفسير سورة النصر:ثلاث آيات مدنية.{إذ جاء نصر الله} أي أعانته تعالى وإظهاره إياك على أعدائك.فإن قلت: لا شك إن ما وقع من الفتوح كان بنصرة المؤمنين فما وجه أضافتها إلى الله قلت لأن أفعالهم مستندة إلى دواعي قلوبهم وهي أمور حادثة لابد لها من محدث وهو الله تعالى فالعبد هو المبدأ الأقرب والله هو المبدأ الأول والخالق للدواعي وما يبتني عليها من الأفعال والعامل في إذا هو سبح أيفسبح إذا جاء نصر الله ولا يمنع الفاء عن العمل على قول الأكثرين أو فعل الشرط وليس إذا مضافًا إليه على مذهب المحققين وإذا لما يستقبل واوَلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة لما روى أن السورة نزلت قبل فتح مكة كما عليه الأكثر {وَالْفَتْحُ} أي فتح مكة على أن الإضافة واللام للعهد وهو الفتح الذي تطمح إليه الأبصار ولذلك سمى فتح الفتوح ووقع الوعد به في أول سورة الفت وقد سبقت قصة الفتح في تلك السورة وقيل جنس نصر الله ومطلق الفتح على أن الإضافة واللام للاستغراق فإن فتح مكة لما كان مفتاح الفتوح ومناطها كما أن نفسها أم القرى وأمامها جعل مجيئه بمنزلة مجيء سائر الفتوح وعلق به أمره عليه السلام وإنهما على جناح الوصول إليه عن قريب ويمكن أن يقال التعبير للإشارة إلى حصول نصر الله بمجيء جند بهم النصر وقيل نزلت السورة في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع وعاش عليه السلام بعدها ثمانين يومًا أو نحوها فكلمة إذا حينئذٍ باعتبار أن بعض ما في حيزها أعني رؤيته دخول الناس.. الخ.غير منقض بعد وقال سعدى المفتي وعلى هذه الرواية فكلمة إذا تكون خارجة عن معنى الاستقبال فإنها قد تخرج عنه كما قيل في قوله تعالى: [الجمعة: 11-5]{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الآية وفي المصطلحات إن الفتوح كل ما يفتح على العبد من الله تعالى بعد ما كان مغلقًا عليه من النعم الظاهرة والباطنة كالأرزاق والعبادات والعلوم والمعارف والمكاشفات وغير ذلك والفتح القريب هو ما انفتح على العبد من مقام القلب وظهور صفاته وكمالاته عند قطع منازل النفس وهو المشار إليه بقوله نصر من الله وفتح قريب والفتح المبين هو ما يفتح على العبد من مقام الولاية وتجليات أنوار الأسماء الإلهية المفنية لصفات القلب وكمالاته المشار إليه بقوله: إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر يعني من الصفات النفسانية والقلبية والفتح المطلق هو أعلى الفتوحات وأكملها وهو ما انفتح على العبد من تجلى الذات الأحدية والاستغراق في عين الجمعب فناء الرسوم الخلقية كلها وهو المشار إليه بقوله: إذا جاء نصر الله والفتح انتهى.وقد سبق بعبارة أخرى في سورة الفتح وعلى هذا فالمراد بالنصر هو المدد الملكوتي والتأييد القدسي بتجليات الأسماء والصفات وبالفتح هو الفتح المطلق الذي لا فتح وراءه وهو فتح باب الحضرة الإلهية الأحدية والكشف الذاتي ولا شك إن الفتح الأول هو فتح ملكوت الأفعال في مقام القلب بكشف حجاب حس النفس بإفناء أفعالها في أفعال الحق والثاني هو فتح جبروت الصفات في مقام الروح بكشف حجاب خيالها بإفناء صفاتها في صفاته والثالث هو فتح لاهوت الذات في مقام السر بكشف حجاب وهمها بإفناء ذاتها في ذاته ومن حصل له هذا النصر والفتح الباطني حصل له النصر والفتح الظاهري أيضًا لأن النصر والفتح من باب الحرمة وعند الوصول إلى نهاية النهايات لا يبقى من السخط أثر أصلًا ويستوعب الظاهر والباطن أثر الرحمة مطلقًا ومن ثمة تفاوت أحوال الكمل بداية ونهاية فظهر من هذا إن كلا من النصر والفتح في الآية ينبغي أن يحمل على ما هو المطلق لكنى اقتفيت أثر أهل التفسير في تقديم ما هو المقيد لكنه قول مرجوح تسامح الله عن قائله {ورأيت الناس} أبصرتهم أو علتمهم يعني العرب واللام للعهد أو الاستغراق العرفي جعلوه خطابًا للنبي عليه السلام، بالاستغفار مع إنه لا تقصير له إذ الخطاب لا يخصه فالأمر بالاستغفار لمن سواه وإدخاله في الأمر تغليب {يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ} أي ملة الإسلام التي لا دين يضاف إليه تعالى غيرها والجملة على تقدير الرؤية البصرية حال وعلى تقدير الرؤية القلبية مفعول ثان وقال بعضهم: ومما يحتلج في القلب إن المناسب لقوله يدخلون. الخ.إن يحمل قوله: {والفتح} على فتح باب الدين عليهم {أَفْوَاجًا} حال من فاعل يدخلون أي يدخلون فيه جماعات كثيرة كأهل مكة والطائف واليمن وهو أزن وسائر قبائل العرب وكانوا قبل ذلك يدخلون فيه واحدًا واحدًا واثنين اثنين روى إنه عليه السلام لما فتح مكة أقبلت الرعب بعضها على بعض فقالوا إذا ظفر بأهل الحرم فلن يقاومه أحد وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم فكانوا يدخلون في دين الإسلام أفواجًا من غير قتال.قال أبو عمر ابن عبد البر لم يمت رسول الله عليه السلام وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل وفي الإسلام بعد حنين منهممن قدم ومنهم من قدم وافده وقال ابن عطية والمراد والله أعلم العرب عبدة الأوثان وإما نصارى بني تغلب فما أسلموا في حياته عليه السلام، ولكن أعطوا الجزية وفي (عين المعاني) الناس أهل البحر، قال عليه السلام: «الإيمان يماني والحكمة يمانية» وقال وجدت نفس ربكم من جانب اليمن أي تنفيسه من الكرب وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه إنه بكى ذات يوم فقيل لهفي ذلك فقال سمعت رسول الله عليه السلام، يقول «دخل الناس في دين الله أفواجًا وسيخرجون منه أفواجًا» {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} التسبيح مجاز عن التعجب بعلاقة السببية فإن من رأ أمر أعجبيًا يقول سبحان الله قال ابن الشيخ لعل الوجه في إطلاق هذه الكلمة عند التعجب كما ورد في الأذكار ولكل أعجوبة سبحان الله هو أن الإنسان عدن مشاهدة الأمر العجيب الخارج عن حد أمثاله يستبعد وقوعه وتنفعل نفسه منه كأنه استقصر قدرة الله فلذلك خطر على قلبه أن يقول من قدر عليه وأوجده ثم إنه في هذا الزعم مخطئ فقال سبحان الله تنزيهًا عن العجز عن خلق أمر عجيب يستبعد وقوعه لتيقنه بأن الله على كل شيء قدير قال الإمام السهيلي رحمه الله، سر اقتران الحمد بالتسبيح أبدًا نحو سبح بحمد ربك وإن من شيء ألا يسبح بحمده إن معرفة الله تنقسم قسمين معرفة ذاته ومعرفة أسمائه وصفاته ولا سبيل إلى إثبات أحد القسمين دون الآخر وإثبات وجود الذات من مقتضى العقل وإثبات الأسماء والصفات من مقتضى الشرع فبالعقل عرف المسمى وبالشرع عرفت الأسماء ولا يتصور في العقل إثبات الذات إلا مع نفي سمات الحدوث عنها وذلك هو التسبيح ومقتضى العقل مقدم على مقتضى الشرع وإنما جاء الشرع المنقول بعد حصول النظر والعقول فنبه العقول على النظر فعرفت ثم علمها ما لم تكن تعلم من الأسماء فانضاف لها التسبيح والحدم والثناء فما أمرنا تسبيحه إلا بحمده انتهى.ومعنى الآية فقل سبحان الله حال كونك ملتبسًا بحمده أي فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد من أن يغلب أحد على أهل حرمه المحترم وأحمده على جميع صنعه هذا على الرواية الأولى ظاهر وإما على الثانية فلعله أمربأن يداوم على ذلك استعظامًا لنعمته لا بأحداث التعجب لما ذكر فإنه إنما يناسب حالة الفتح.وقال بعضهم: والأشبه أن يراد نزهه عن العجز في تأخير ظهور الفتح وأحمده على التأخير وصفه بأن توقيت الأمور من عنده ليس إلا بحكم لا يعرفها إلا هو. انتهى.أو فاذكره مسبحًا حامدًا وزد في عبادته والثناء عليه لزيادة إنعامه عليك أو فصل له حامدًا على نعمه فالتسبيح مجاز عن الصلاة بعلاقة الجزئية لأنها تشتمل عليه في الأكثر روى إنه عليه السلام لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات وحملها بعضهم على صلاة الشكر لا على صلاة الضحى وبعضهم على أن أربعًا منها للشكر وأربعًا للضحى أو فنزهه عما يقول الظلمة حامدًا له على أن صدق وعده أو فأثن على الله بصفات الجلال يعني الصفات السلبية حامدًا له على صفات الإكرام يعني الصفات الثبوتية أي على آثرها أو على تنزيلها منزلة الأوصاف الاختيارية لكفاية الذات المقدس في الاتصاف بها فإن المحمود عليه يجب أن يكون أمرًا اختياريًا.وقال القاشاني: نزه ذاتك عن الاحتجات بمقام القلب الذي هو معدن النبوة بقطع علاقة البدن والترقي إلى مقام حق اليقين الذي هو معدن الولاية حامدًا له بإظهار كمالاته وأوصافه التامة عند التجريد بالحمد الفعلي {وَاسْتَغْفِرْهُ} هضمًا لنفسك واستقصارًا لعملك واستعظامًا لحقوق الله واستدراكًا لما فرط منك من ترك الأولى أو استغفر لذنبك وللمؤمنين وهو المناسب لما في سورة محمد وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق حيث لم تشتغل على رؤية الناس باستغفارهم أولًا مع إن رؤيتهم تستدعى ذلك بل اشتغل أولًا بتسبيح الله وحمده لأنه رأى الله قبل رؤية الناس كما قيل ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وذلك لأن الناس مرآة العارف وصاحب المرآة يتوه أولًا إلى المرئي وبرؤية المرئي تلتفت نفسه إلى المرآة ولك أن تقول إن في التقديم المذكور تعليم أدب الدعاء وهو أن لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسؤول عنه عن عائشة رضي الله عنها «إنه كان عليه السلام يكثر قبل موته أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك» وعنه عليه السلام «إني لاستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» ومنه يعلم إن ورد الاستغفار لا يسقط أبدًا لأنه لا يخلو الإنسان عن الغين والتلوين وروى «إنه لما قرأها النبي عليه السلام على أصحابه استبشروا وبكى العباس فقال عليه السلام ما يبكيك يا عم قال نعيت إليك نفسك أي ألقى إليك خبر موت نفسك والنعي ألقاء خبر الموت قال عليه السلام، إنها لكما تقول فلم ير عليه السلام بعد ذلك ضاحكًا مستبشرًا» وقيل إن ابن عباس رضي الله عنهما هو الذي قال ذلك فقال عليه السلام «لقد أوتى هذا الغلام علمًا كثيرًا» ولذلك كان عمر يدنيه ويأذن له مع أهل بدر ولعل ذلك للدلالة على تمام أمر الدعوة وتكامل أمر الدين كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} والكمال دليل الزوال كما قيل:أو لأن الأمر بالاستغفار تنبيه على قرب الأجل كأنه قال قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر ونبه به على أن العاقل إذا قرب أجله ينبغي أن يستكثر من التوبة وروى إنها لما نزلت خطب رسول الله فقال: «إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله» فعلم أبو بكر رضي الله عنه فقال فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا وعنه عليه السلام إنه دعا فاطمة رضي الله عنها، فقال: «يا بنتاه إنه نعيت إلى نفسي» فبكت فقال: «لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقًا بي» فضحكت وعن ابن مسعود إن هذه السورة تسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا قال علي رضي الله عنه لما نزلت هذه السورة مرض رسول الله عليه السلام، فخرج إلى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل فتوفى بعد أيام قال الحسن رحمه الله أعلم إنه قد اقتر أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له بالعمل الصالح وفيه تنبيه لكل عاقل {إنه كان توابًا} مبالغًا في قبول توبتهم منذ خلق المكلفين فليكن كل تائب مستغفر متوقعًا للقبول وذلك إن قبول التوبة من الصفات الإضافية ولا منازعة في حدوثها فاندفع ما يرد إن المفهوم من الآية إنه تعالى تواب في الماضي وكونه توابا: الماضي كيف يكون علة للاستغفار في الحال والمستقبل وفي اختيار إنه كان توابًا على غفارًا مع أنه الذي يستدعيه قوله واستغفر حتى قيل وتب مضمر بعده وإلا لقال غفارًا تنبيه على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة والندم والعزم على عدم العود ثم إن من أضمر وتب يحتمل إنه جعل الآية من الاحتباك حيث دل بالأمر بالاستغفار على التعليل بأنه كان غفارًا وبالتعليل بأنه كان توابًا على الأمر بالتوبة أي استغفره وتب.ذكر البرهان الرشيدي إن صفات الله تعالى التي على صيغة المبالغة كلها مجاز لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكبر أكثر مماله وصفاته تعالى منزهة عن ذلك واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله وقال الزركشي في البرهان التحقيق إن صيغة المبالغة قسمان أحدهما ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل والثاني بحسب تعدد المفعولات ولا شك إن تعددها لا يوجب للفعل زيادة إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين وعلى هذا القسم تنزل صفاته ويرفع الأشكال ولهذا قال بعضهم: في حكيم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع وقال في الكشاف المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه أو لأنه بليغ في قبول التوبة بحيث ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه. اهـ.
|